ماكينة الأم!...
ماكينة أسرت أمًا خلفها، أمضت أعمارًا تخيط أقمشة، أتقنت تفصيلها بدقة، فاقت براعة نحات ماهر. حتى غدت أردية براقة متوهجة بأشعة... كست عورات نساء مترفات. فازددن أناقة وجمالاً أخاذًا.
ماكينة لعلع صوتها في فراغ محترف جعلته صومعتها، ليخبر عن صمت معاناة الأم... وهي تحوِّل خيوط إبرة متدلية من خرمها، أشعة تحيك لحمة بين نسيج، عشق ملمس يداها. فغدا رداءً جميلاً عكس صورة رداءنا الأصيل، قبل أن يتلطخ بسلبياتنا...
ماكينة ربطت الصبح بالمغيب، من دون كلل أو ملل، أبعدت العوز والفقر عن فلذات أكبادها. ما أحدث تناغمًا بين دقات قلبها، وإيقاع سرعة دوران دولابها. فأصبحت امتدادًا لها، كلما حقق أولادها نجاحًا باهرًا.
ماكينة الأم، لم تكلَّ عجلتها عن الدوران، بل بقيت تنبض على إيقاعات قلبها المعطاء. تُحرَّك عجلة الزمن باتجاه مستقبل أفضل، سرّع دواليب أمنا الكونية... كلما تمخض عنها عملاً فنيًا رائعًا. وهي تثابر الأم على إتقان فنون هندسة الأزياء، لعل جمال المرأة يجتاح مواطن القباحة في المجتمعات.
ماكينة لا زالت جاثمة في مكانها، تشهد على معاناة أم، ضحّت بحياتها لتعيل أشعة بشرية خرجت من أحشائها. فأضحت خالدة في ذاكرتهم، تشهد على عطاءات أم تسعى لترتدي أفكارهم، أردية علم وثقافة ووعي، بعدما تدثرت مشاعرهم بوجدان معاناتها.
ماكينة قاومت فتك الزمن، رغم ما ترك من بصمات عليها. ما جعلها تحفة فنية، يفتخر بها كل من عرف معنى تضحية الأم. لاسيما بعدما سجلت لحظة بلحظة، سيرة حياة حافلة بأحداث مؤلمة، واجهتها الأم بصبرها وتحملها للألم النفسي والجسدي معًا.
ماكينة استطاعت أن تعمل ليل نهار، وهي تحول قماشًا ساكنًا منعدم الحركة إلى قطعة فنية نابضة بالجمال، يعشق بارتدائها كل من عرف معنى الاتقان الفني، والبراعة في صناعة ألبسة ندر جمالها.
ماكينة الأم، مهما شاخت وإن بدت خرساء. لا زالت تضج بأسرار، تكشف معاني عطاءات الأمهات. تبوح بكلمات عن ماض أليم، وما ارتسم في مخيلتهن من صور، خطت بإبرة معاناتها...
ماكينة ندر تواجدها في مجتمع يسعى إلى الربح المادي على حساب المساعدة والمشاركة والعطاء. فكانت مع كل دمعة مهراقة تزرفها، تمسحها لتجدد عطاءها لأولادها. لعلهم بدورهم يسعون إلى إيقاظ لحن الأم... كي تبقى صورتها خالدة في ذاكرتهم.
ماكينة حاكت لحمة بين ثلاثية الزمن. فتكشفت صوره التي زرعتها الأم في باطن وعيها... بعدما غدا خيط إبرتها، شريط أحداث يكشف مسار المد الزمني المستقبلي الذي ينتظر فلذات أكبادها.
ماكينة الأم! مشابهة لماكينة تنسج أردية ذبذبية نورانية... خيوطها أشعة أثيرية... حاكتها الأم الكونية على نسيج الوجود... فتدثر بها كل من سما حكمة وجمالاً وكمالاً.
بوركت أمي... وتقدست كل أم جعلت من حياتها مذبحًا يشع عطاءً، ويضوع عطرًا سرمديًا في الوجود...
المهندس طوني عبد النور
أستاذ في الجامعة اللبنانية