الطلاق حقيقة أم وهم؟!
الطلاق، الهجر،
بطلان الزواج، مصطلحات عديدة ابتكرها الإنسان، مسبباً الفراق
بين زوجين تعاهدا أن يؤسسا عائلة مشتركة، قوامها الحب والمصارحة والمشاركة والتواصل
والثقة، بغاية تحقيق التكامل الإنساني... لكن كما يبدو أن
ما يحدث في مجتمعاتنا يظهر ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة الطلاق، حتى بين الطوائف التي
تمنعه وتحرمه... وبين من ارتضى السير على درب الباطن. ونسبة الطلاق هذه تشهد في
الآونة الأخيرة ارتفاعات قياسية، بسبب انعدام مقومات الحب الواعي، بعدما أصبح
الإنسان يغلّب المادة واضعاً إياها هدفاً نصب عينيه، جاعلاً من الحب أكذوبة تمكنه
من الانفصال وإلغاء الزواج
بهدف
تحقيق التجدد اللاواعي، عبر تشريع بشري ضال، يسمح بتبديل الشريك أو الشريكة طبقاً
لرغبات وأهواء النفس البشرية، متناسين أن الزواج رباط مقدس!
والسبب كما نوّهت إليه علوم الباطن الإنساني...
أن
أجسام النفس الدنيا الخاصة بكليهما، هي ما تنفصل أولاً عن بعضها طبقاً لحالة الشرخ
القائمة بينهما، مما يبدد لحمتها الداخلية التي كان قد نسجها الحب. بينما أجسام
الذات العليا الخاصة بالمطلقين، تبقى في حالة تواصل لاواعية... وهذا ما يمدد إقامة
الإنسان على الأرض، جراء زيادة عدد تجسداته عليها، لكي يتسنى له التكفير عن أخطائه
المرتكبة، ومن بينها سلبية الطلاق. ولا عجب إن التقيا
المطلقين حالياً في حياة لاحقة كزوجين مجدداً، ليصححا ما ارتكباه من أخطاء بحق
نفسيهما.
مما يؤكد قول السيد المسيح حينما قال:" ما جمعه الله لا
يفرقه إنسان"،
إنجيل متى 19: 6 وإنجيل مرقس
10: 9 . أيضاً في الحديث الشريف ورد:"
أبغض الحلال إلى الله الطلاق
." وهذا ما يثبت أن
شرعنة الطلاق، وهم نسجه الفكر البشري، كونه لا يستمر إلاَّ لمرحلة آنية.
لكن هل في مقدور الإنسان أن يحيا دون حب وزواج؟! أم أنه
سيواصل سعيه مجدداً بغاية إيجاد النصف الذي يعتقده مكملاً له؟!
الحب ذلك الإكسير السحري... تتوق
إليه النفس لاوعياً منها، كلما ابتعدنا عنه نجد أنفسنا أنها بحاجة إليه أكثر وأكثر،
وكأنما الحياة لا تستمر دون حب. وإذا عدنا الى بدايات ظهور الحب في حياتنا، تشير
علوم الباطن الى أنه كان كامناً في الإنسان الكامل ينتظر أوان تفعيله. وقد حدث ذلك
عندما انشطر هذا المخلوق النوراني الى امرأة ورجل، والحب سجّل مرحلة الانشطار هذه.
مما ولّد سعادة وألم، سعادة بقرب اللقاء مجدداً، وألم
بسبب الافتراق والتباعد والهجر.
الإنسان المنشطر وليد الحب، ذلك الحب الذي لم يستطع النصفان
أن يعياه حينما كانا يحييان في وحدة الإنسان الكامل. يشرح الأديب اللبناني ميخائيل
نعيمه في كتابه
مرداد الطبعة الثامنة في صفحة 267:" فحواء ما كانت طينة
جديدة ونسمة جديدة. بل كانت من طينة آدم عينها ونسمته بالذات – كانت لحماً من لحمه
وعظماً من عظمه. ولا كانت حواء خليقة جديدة. إن هي غير شطر من الإنسان الذي انشطر
الى شطرين: أحدهما ذكر دعي آدم. والآخر أنثى دعيت
حواء."
لذلك تحتّم عليهما الانشطار ليفعّلا الحب، بعدما عجزا عن
اكتساب الحكمة بواسطة المحبة والإرادة، مما ولّد ألماً مزمناً في نفسيهما ازداد
كلما باعدت المسافات الفاصلة بينهما. ولا يزال إنساننا يتألم كونه لم يجد ضالته، بل
نراه يضاعف ألمه عبر زيجات مختلفة تؤدي الى الطلاق، فيتوه في متاهات المصير، في حين
أن وعيه الباطني يسجل شعور الانفصال والشرخ والهجر والطلاق. وللأسف الشديد لا يزال
الإنسان يرتكب هذا الجرم بحق نفسه، مما يعزز هذا الشعور المؤلم في النفس، ويؤدي
بالتالي الى مزيد من التباعد بين النصفين الأصيلين، عوض أن يؤسس الحب لتقارب
مستقبلي بينهما.
ولا يزال المجتمع المعاصر والمدني يقر بالطلاق ويسمح به تحت
تسميات مختلفة، بحجة انتفاء الحب وبروز مشاكل عديدة بين الزوجين، نجمت عن التحايل
الفكري مرض العصر، والأنانية التي ألغت منطق الحب الواعي. هذه السلبيات المتأصلة في
النفس البشرية، أدت الى بروز سلبية الخيانة التي نحرت الحب بحرابها، وقضت على
الزواج بأنيابها ومخالبها، متسببة بتدمير الحياة العائلية.
فهل هذا مقبول بحدوثه ونحن قد دخلنا عصراً
جديداً من الوعي؟! أم إن مصير البشرية سوف يتقرّر، إما
ارتقاءً في الوعي أو تدركاً؟!
العصر الجديد لن يكون رحيماً مع هؤلاء الضالين،
لأنه لن يكون مسموحاً بارتكاب المعاصي والسلبيات.
فشل الحب بين الشريكين سببه الابتعاد عن تحقيق النقاء النفسي
بينهما، وهذا ما يفسّر سبب تواجد الزيجات الفاشلة التي تؤدي أغلبها الى طلاق. فما
ينقص مجتمعنا هو الحب الأصيل، ذلك الحب الذي يؤسس لشراكة حقيقية بين العاشقين حول
هدف إنساني مشترك، يفعل اللحمة الداخلية بينهما، فتشرق عندئذ السعادة الحقة في
حياتهما.
المفكر الشاعر الفنان، والأديب اللبناني جبران خليل جبران في
مجموعته الكاملة – بيت السعادة في صفحة 365:" السعادة لا تبتغي قناعة، إنما السعادة
شوق يعانقه الوصال، والقناعة سلوّ (هجران) يساوره
النسيان."
هذا
الحب الأصيل يمهّد عبر دورات الإنسان المتتالية له على الأرض، لتقريب المسافات
الفاصلة بين أجهزة وعيه الخفية... وأيضاً بين النصف المكمل له.
فالحب يخترق المسافات والحواجز المصطنعة والكثافات، لأنه قوة
تفاعل كل من المحبة عبر المشاعر، والإرادة عبر الفكر. فمن كانت محبته توازي قوة
إرادته، حطّم الفواصل في مجتمعنا سواء كانت موانع اجتماعية عرقية أم دينية، أو ربما
داخلية جرّاء حجب اللاوعي التي أمعنت في الشرخ بين نصفي الوجود المرأة والرجل.
وهذا ما يؤكد، أن مصير الطلاق مستقبلاً الى تلاشي وزوال،
كلما ارتقى الإنسان على معارج الحب الأصيل، ذلك الحب الذي يدمج مكونات وعي كل من
النصفين الأصيلين في وحدة الإنسان الكامل، بعد تحقيق الحب الكبير...
المهندس طوني عبد النور
أستاذ في الجامعة اللبنانية