التربية وتأثيرها في بناء الشخصية  البشرية

 

لعل أبرز ما ميز الإنسان عن باقي المخلوقات، تمتعه بوعي ذاتي ينمو من خلال تربية صالحة قائمة على أسس إنسانية باطنية...قادرة على تفتيح المعرفة الهاجعة في لاوعيه!

وهذا يتطلب الاهتمام والرعاية، فعند بداية نمو الإنسان-الجنين، يستطيع الأهل وبالأخص الأبوين زرع في لاوعيه ما يودون إكسابه إياه لاحقاً، وكأنك تختار نبتة من نوع معين تريد زرعها في أرض خصبة. فبقدر ما يتم الاعتناء بها، بقدر ما تتأهل مستقبلاً لتصبح شجرة مثمرة وارفة الأغصان. هكذا الإنسان عند بداية إطلالته الى الحياة يكون بحاجة ماسة الى أبويه خاصة الأم، لأنه مرتبط بها عضوياً وأثيرياً، منها يتغذى مادياً بواسطة حبل الصرة، وذبذبياً من خلال جسم أمه الأثيري الذي يتفاعل مع المحيط الخارجي لينقل أحاسيسه ومشاعره وأفكاره الى الجنين.

فكل ما تفكر به الأم وتشعر به، يتسجّل ذبذبياً في أجسام الجنين الباطنية التي بدأت بالتكون لحظة اختراق السائل المنوي لبويضة الأم، ما أدى الى تحولها الى علقة ثم مضغة فجنين.

لذلك المطلوب من الأبوين أثناء الحمل التعامل مع الجنين بشكل واع، وأن يخططوا منذ تلك اللحظة لرسم مستقبله، مما يسهّل عليهم لاحقاً توجيهه نحو أهداف تمكنه من تطوير وعيه. وقد صدق من قال: ’مثلما تزرع تحصد‘. فالتربية الحقة مشاركة، تتحقق من خلال تكامل الأدوار بين الأب والأم، مما يوسع من نطاق الحب الفاعل بينهما.

عند انتهاء المرحلة الأولى من التربية، نلج المرحلة الثانية وهي امتداد لسابقتها كما تضيف علوم أنسنة الإنسان... حيث الأهل جميعاً يتعاونون في بناء شخصية الطفل، ليرتفع صرح إنساني جديد قادم إلينا من عوالم الماوراء...في هذه المرحلة يتم الاعتناء بمأكله وغذائه، فيسهرون جميعاً على نموه جسدياً وهم يسعون لتفتيح ما زرع فيه باطنياً أثناء مرحلة الحمل.

 

بعد سن السابعة تبدأ المرحلة الثالثة من التربية، وتقتصر على الاهتمام بوعي الطفل خاصة الناحية المشاعرية لديه، لأن المشاعر تكون في هذا السن مسيطرة بشكل كامل. مثلاً إن اشتدت الغيرة لديه، عمد الأهل فوراً الى إزالة هذه السلبية من خلال تفتيحه الى عامل المحبة، عبر إعطائه جرعات فكرية تقوي شخصيته وتبث الثقة في نفسه. كما أن تشجعيه مطالعة الأدب الباطني، وممارسة الفنون الجميلة، بالإضافة الى قراءة الشعر، يفتح لديه حس الجمال... كل ذلك يكسب الأبناء الرقة والشفافية والعاطفة الإنسانية. مما يجعلهم أفراداً يتعاملون بشكل ايجابي مع الآخرين عبر تطبيقهم لإرشادات الأهل المنسجمة مع مبدأ العطاء.

قد يتساءل البعض هل القسوة في التعامل مع الأبناء ضرورية في بعض الأحيان جراء العناد المستشري لديهم؟!

إن المطلوب التعامل معهم بحكمة العارفين، فالحزم والصرامة ضروريان، لأن التعامل بليونة ورخاوة معهم  مضر ومرفوض لأنه يوسع من نطاق العناد في النفس.

 

وعند ولوج سن الرابعة عشرة، تبدأ المرحلة الرابعة من التربية لتنتهي في عمر الواحد والعشرين، تتابع هذه العلوم الإنسانية شرحها، أن على الأهل الاهتمام بتفكير أبنائهم المراهقين، فشعور الحرية لديهم بدأ يتعزز، فهم يريدون تحقيق أمنياتهم وأحلامهم، كذلك الحصول على ما افتقدوا إليه منذ سن الطفولة.

هذه المرحلة تعتبر من أصعب مراحل التربية، على الأهل أن يكونوا يقظين لكل تصرف سلبي ينتج عن أبنائهم، فوعي الباطن بدأ بالتحرك والظهور ليعلن عن وجوده. وغالباً ما تظهر السلبيات أكثر من الايجابيات في هذه المرحلة، على عكس المرحلة الأولى من التربية.  لذلك يتوجب توخي الحذر في التعامل مع الأبناء، لأن أي عملية قمع، أو فرض قد تكون عواقبها وخيمة. إن المطلوب في هذه الحالة التصرف بحكمة العارفين ورزانة المرشدين، بغاية تنبيه هذا المراهق الى الخطأ الذي يرتكبه دون أن يشعر بخيبة وانكسار قد تولد الكآبة لديه، لأن من شأن ذلك إضعاف شخصيته.

بعد سن الواحد والعشرين تنتهي مرحلة تربية الأبناء، لتبدأ مرحلة الاتكال على النفس والاستقلالية، عندئذ لا يجوز بتاتاً أن يفرض الأهل آراءهم على الأبناء، بل يكونون لهم إخوة مرشدين يساعدونهم على تلمس مستقبلهم الذي خططوا له في المرحلة السابقة. وفي حال تواجد تباين في الرأي، على الأهل أن يدعوا لأبنائهم حرية تقرير مصيرهم، وإلاّ سيؤدي ذلك الى تواجد عائلة غير منسجمة مع ذاتها، مما يولّد مشاكل عائلية توسع الشرخ بين أفرادها.

يقول الأديب والفنان اللبناني حبران خليل حبران في كتاب النبي: " أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم".

وكأنما المطلوب لبناء الشخصية الواعية، عبر مراحل التربية الأربعة (التي تمثل قاعدة هرمية) تطبيق مبادئ المعرفة القائمة على العطاء الواعي، لتصبح الشخصية البشرية كالسهم تتجه نحو قمة هرم وعيها... مما يشير الى أن مثلثات الهرم الأربعة التي ترتكز على قاعدة هرم وعينا الباطني… ترتفع صعداً، كلما تمدد وتوسع وعي الإنسان، وهو ينهل من المجتمع وباطنه الخفي الذي يحوي موسوعات معرفة ضخمة لا تقدر بثمن.

 تبارك كل إنسان سعى ليصبح أباً أو أماً أو مرشداً صالحاً، هدفه المساهمة في بناء مجتمع إنساني يتوق للتخلص من سلبياته كي يرتفع صرح الإنسان عالياً.               

 

المهندس طوني عبد النور

أستاذ في الجامعة اللبنانية