رؤية باطنية للتفاصيل الهندسية

 

التفصيل الهندسي، تصوير إشعاعي يسمح لنا برؤية ما وراء الواجهات الهندسية، ويجعل اللامنظور- روح البناء، جلياً أمام أبصارنا. هذا ما ذكره المهندس الإيطالي ماريو كوشينيلا.

بينما المهندس الألماني كارل جوزف شتاينر أشار الى أن الأشكال الهندسية سواء كانت صغيرة أم كبيرة هم على علاقة وثيقة بعضهم ببعض. نفهم من ذلك أن الشكل الصغير يدرك من الأكبر حجماً.  

وكأن بهذين المهندسين العملاقين قد أشارا بأن إدراك حقيقة الشكل الهندسي، لا تحصل إلا من خلال التفصيل. فهو يدخل في كيفية تنفيذ الفتحات، كالنوافذ والأبواب مهما كان نوعها، ليجعلها  لآلئ تضيء أيامنا الحالكة، بالإضافة الى إبراز تفاصيل جميع الأشكال الهندسية التي تدخل في تصميم البناء كالدرج والمدخل والكرانيش والأثاث الخ...

أما المهندس ميز فاندر روهي، فقد قال بأن الله في التفاصيل، بمعنى أن كل تفصيل هندسي بديع يعكس جزءاً من مقدرة مبدع الكون... قد يظن البعض أن الله يسكن في أجزاء المادة أو حال فيها كما تظن الحلولية، وهذا غير صحيح لأن الله أوجد عناصر المادة والخالق دمجها بوعيه وهندسها لتظهر متخذة هذا الشكل الرائع، تماماً كما يفعل المهندس حينما يستخدم عدة مواد هندسية من أجل بناء أو تنفيذ تصميم هندسي معين. كل ذلك ينم عن فكر متعمق في أسرار الكيان الإنساني ومعرفة شاملة في استخدام مواد البناء. مما جعل العمارة محتوى مثالي طبيعي لإنسان يسعى للتكامل بوعيه جرّاء إيجاده لأبنية هندسية متماشية شكلاً ومضموناً مع الطبيعة - الجسم الأثيري للأرض التي تكسب الإنسان عناصر غذائية كالضوء والأثير والهواء والماء جرّاء انعكاس طاقة الحياة برانا التي تتكثف في الأماكن المرتفعة. وهذا يتطلب أيضاً أن يكون اتجاه البناء لجهة الشرق كي يمتص معظم طاقة الشمس عند ولادتها في الصباح الباكر. هذا ناهيكم  أن الأشجار يمكنها أن  تلعب دوراً مماثلاً أثناء غياب الشمس من خلال تخزينها لطاقتها ومن ثم إطلاقها مجدداً من خلال الأكسيجين.

ويعتبر التفصيل الهندسي جوهر الهندسة المعمارية، حقيقتها المنعكسة في العالم المادي، يتراءى لنا وفق ثلاثة أنواع هي:

 1- التفصيل الإنشائي:  يقوم بدراسته مهندس متخصص في الهندسة المدنية، وهو يكشف تسليح الأعمدة والجسور والخرسانة المسلحة، بحيث يقوم المهندس المدني بتحديد حجم ومقاييس ونسب مكوّناتها طبقاً لما حدده له المهندس المعماري في خرائط التنفيذ.

2-  التفصيل البنائي: يحدد كيفية البناء وأصول استخدام مواد هندسية معينة اختارها المهندس المعماري لتتماشى مع فكرة المشروع، ومن ثم كيفية تنفيذها سواء في استخدام الحجر الطبيعي أم مواد متعددة،كالمادة الخشبية القادرة على إظهار جمالية العمارة.

3-  التفصيل الزخرفي: يعتبر من أهم مكوّنات العمارة في إبراز أصالتها وتاريخها المعماري. هذا التفصيل يضفي جمالية على العمل الهندسي إن أحسن المهندس المعماري استخدامه، بحيث تكون جميع التفاصيل متناسقة متلائمة مع فكرة المشروع.

 

فهل كل ما ذكر استطاع أن يكشف لنا أسرار التفاصيل الهندسية (DETAILS) أم لا تزال هنالك أموراً مستورة يجب التطرق إليها؟!

قاموس لاروس الفرنسي يشرح في بعض أقسامه معنى كلمة DETAIL بأنها جزء من أجزاء الكل، فيما بعض القواميس العربية تشير الى أن كلمة تفصيل مشتقة من فعل فصّل بمعنى بيّن حقيقته.

هذا ما أجمعت على شرحه القواميس، لكن لماذا على الإنسان اللجوء الى تفصيل الأمور والأشياء والأشكال، ليدرك شمولية حقيقتها ؟!

نورد ثلاثة أسباب رئيسية:

-       عدم مقدرة الإنسان على احتواء الشكل الهندسي بكل تشعّباته في عالم المادة.

-       النظر الى الأشكال الهندسية التي تؤلف العمل الهندسي نظرة مادية.

-       عدم مقدرة المهندس تحديد عناصر رئيسية تؤلف المشروع الهندسي ...

فلنأخذ مثلاً بناءً ينتمي الى العمارة التراثية، لمعرفة حقيقة هذا البناء الهندسي يستلزم ذلك اكتشاف الحقبة الزمنية التي ينتمي إليها، كي تتجلى أمامنا طريقة الحياة المتبعة آنذاك والتي طبعت العمارة بأساليب عيشها، سواء من الناحية الوظيفية للبناء، أم لناحية الشكل والنمط الهندسي.  وهذا كله مسجل في الجينات الوراثية للبناء وتحديداً في نوى خلاياه والتي نستطيع تسميتها بالعناصر الأساسية المكونة له. كالباحات  التي تربط بين مختلف الوظائف الهندسية والفراغات المختلفة للبناء بالإضافة الى مواد البناء التي هي أيضاً تبرز جمالية العمارة من خلال تناسقها مع محيطها.

قد يظن البعض، أن التفاصيل الهندسية متعلقة فقط بسبر غور الشكل الهندسي من أجل جلاء حقيقته المادية، كي تبين لنا ما يحتوي عليه من مواد بناء. وهذا خطأ شائع، إذ بإمكاننا سبر مجاهل المادة بواسطة التصوير الضوئي الإشعاعي، لكن لن نتوصل الى أبعاد مراميها إلا من خلال إدراكنا للسبب الذي أوجدها بهذا الشكل، سواء كان دائرياً، مربعاً، مستطيلاً، لولبياً، أو حتى آخذاً أشكالاً طبيعية.

 

لأن الفكرة تتدثر بأشكال مادية متعددة، لتلبي حاجات إنسانية مرتبطة بمستويات وعي مختلفة. وهذا ما أدى الى تواجد أنماط هندسية متميزة بتفاصيل عمرانية، تعكس الفن الداخلي الإنساني القابع في أعماقنا. ولعل الحضارات القديمة التي نشأت في بلاد الرافدين وفي وادي النيل أصدق دليل على ما نشير إليه.

بينما هندسة المستقبل، قد تكون مبنية وفقاً لأشكال مادية شفافة، أغلبها مكوّنة من الهواء. تسمى هلام الهواء  AEROGEL ، صممتها النازا لأهداف علمية فضائية. مما سيجعل مادة العمارة، بمقدورها نقل طاقة الطبيعة برانا الى أجسامنا الباطنية لتتغذى بها. فيصبح التفصيل الهندسي مستقبلاً، مرتكزاً على كيفية نقل هذا الغذاء الطبيعي الى اللامادة في كياننا.

كلما تعمقنا في فهم كياننا الباطني، ارتقت الهندسة بكامل فروعها، وتحديداً تفاصيلها الهندسية-حقيقتها اللامنظورة!...    

 

 

المهندس طوني عبد النور

  أستاذ في الجامعة اللبنانية