أضواء على الجهاد والأسر!
الجهاد منتهى التضحية، كلية العطاء، فعل محبة وإرادة، قد يؤدي إلى استشهاد أو إلى أسر، وربما إلى حالة من الإشراق الروحي... فلو لم يأسر شعاع الروح الكلي مطلق وعيه في وحدة نظامنا الشمسي، لما تشكّلت أبعاده واستوى بعده المادي الذي نحيا ضمنه (كوكب الأرض) وأدى إلى تواجد الخلائق جمعاء.
شعاع روحنا مصدر كينونتنا، انبعث من هذه الوحدة الكلية مشكلاً جزءاً منها، عليه أن يجاهد ليبدد لاوعيه، لعله يعي حقيقة وحدته، فيتخلص من أسره ضمن مطلق نظامنا الشمسي. لذلك مراراً وتكراراً يؤسر شعاع روحنا في أجساد ترابية... كي يستطيع التفتح على حقيقة وجوده اللاواعية التي نشأ فيها أصلاً، محققاً هدف وجودنا الأرضي. وكأنما الخلق بأكمله مبني على الجهاد والأسر، جهاد في سبيل تفتيح المدارك الفكرية، وأسر لشعاع روحنا كي يتفتح على مطلق وعيه الذي يشكل له مدى حريته.
ورد في القرآن الكريم في سورة البقرة - سورة 2 - آية 218:" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم".
وفي رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 4: 7،7 ورد : "جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا".
قاموس المعاني فسَّر معنى كلمة جهاد بالمبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أَو فعل ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ )، ومجاهدةُ النفس : جهاد روحيّ للنفس بفطامِها عن الشهوات والرِّضا بمشيئة الله".
هل هذا يشير إلى أن أسر الروح في الجسد، يبدّد الجهل واللاوعي ويعمد على تنقية النفس من شوائبها وأدرانها وعيوبها، ليعيدها إلى أصالتها نقية برّاقة تعكس حقيقتها القابعة في ذاتها العليا؟! أم لأن قانون التطور برمجت فيه عملية الجهاد كي يرتقي الإنسان بوعيه؟!
لو راقبنا حياتنا منذ بداية إطلالتها ضمن عائلة معينة، لوجدنا أننا نؤسر في أرحام أمهاتنا، كما أمنا الكلية تحتضن أشعة أرواحنا كي تغدو نجوماً كونية... ثم نؤسر ضمن جدران منزلية لنجاهد بعد ذلك في مدارس وجامعات ومجتمعات بغاية التعلم والتفتح لاكتساب الوعي. البعض تأسرهم رغبات معينة، فيما آخرون تأسرهم نزوات لا يتوانون عن تحقيقها مهما اعترضتهم موانع أخلاقية واجتماعية، وذلك بغاية الإفلات من أسر الجسد والتنعم بحرية واهية. بيد أن هنالك العديد من المقاومين المدافعين عن أوطانهم يقعون في الأسر، وقد تجلّت فيهم معاني التضحية والعزة والبسالة، عندما جابهوا الأعداء بجبروت إرادتهم وعنفوان كرامتهم وقوة عزيمتهم في التصدي لشتى أنواع العذابات التي مورست بحقهم من جسدية ونفسية وإرهابية.
صحيح أنهم ذاقوا ذل الأسر، لكنهم غدوا أبطالاً في الجهاد والإباء، آملين في أن نحرر نفوسنا من أسر الجهل والتعصّب والطائفية والعمالة والحقد والضغينة، كي نستحق لنكون أبناءً لوطن يجمع الرسالات السماوية في تعدد طوائفه. فنتآخى ونتعاون فيما بيننا كي نخفّف من وطأة أسر جهلنا، محولين إياه إلى رايات محبة تأسرنا في ظلالها...
وكأن الحياة بأكملها مجموعة حقب من الجهاد والأسر، تعمد على تفتيح لاوعينا الذي لا يتطور إلاّ بواسطة المعاناة والمواجهة. لكن ما الفارق بين أنواع الأسر جمعاء؟!
إن ما يفرّق أسر عن آخر، هو الهدف المراد تحقيقه. فجميعنا أسرى لاوعينا، وحده الوعي بمقدوره أن يحرّرنا منه. والإنسان وجد على الأرض ليتحرّر أولاً من عبودية المادة، ولينعتق من سلبياته التي تسبّبت بأسره ضمن عالم المادة، وكأنها أثقال وأحمال تمنعه من التحليق عالياً نحو قمم وعيه...
وحدهم المعلمون يأسرون أرواحهم طوعاً ضمن أجساد ترابية، بعدما قلّلوا من توهّج هالاتهم النورانية... كي يساعدوننا على تطوير وعينا، وهذا يعتبر أرقى أنواع الأسر وأسماه تضحية. إنه أسر الروح من أجل تفتيح بواطن الآخرين، وأسر الجسد ضمن عالم محدود كي يتواصلوا مباشرة مع أشخاص بحاجة إليهم لمساعدتهم في شؤون وشجون حياتية. فأسر الروح في الجسد طوعاً مطلق التضحية، هي حرية تنازلت عن عرشها وملكوت مجدها بقصد المجاهدة في تطوير وعي الآخرين.
فإلى كل أسير سواء كان في سجن الجسد، أو في سجن الأعداء الظالمين الحاقدين، امتلكْ نعمة الصبر لأنه مفتاح التطور والارتقاء في عوالم الوعي... بعد التطهر من السلبيات الراكدة في اللاوعي. فما من أسر إلاّ وتليه مراحل تطور وارتقاء، فالحياة ما لم تؤسر لمدة زمنية ضمن أحشاء الأم، لن تستطيع أن تتكامل لتكتمل وتتطور. هكذا قانون الوجود مبني على الأسر، أسر هدفه التعلّم والاختبار بغاية التطور في الوعي على النواحي كافة.
فيا من تأسر شعاع روحك من أجلنا لتحقق أسمى جهاد، اجعله سفينة وعي تنطلق بنا إلى أقاصي الأكوان نحو مطلق الحرية إلى النور الكلي...
المهندس طوني عبد النور
أستاذ في الجامعة اللبنانية