الدين تاريخه وسبب تواجده!

 

تديّن الإنسان منذ ما حاد عن درب الوعي، فأصبح الدين هاجسه يسير حياته وأفكاره وكل أعماله حتى أصبح من خلاله يتواصل مع نفسه والخالق والعالم الخارجي، وكأن الدين بات مرشداً للإنسان وسبيله الوحيد للخلاص من عذابات الأرض.

لكن الأديان بدأت بالظهور عندما تجزأت المعرفة الى فلسفات بداية التي بلغت أوجها في بلاد الإغريق، ولا يزال أثرها حتى يومنا هذا. بعد ذلك تجزأت الأديان طبقاً لتعدد الأفكار والمفاهيم البشرية وابتعادها عن المعرفة الأم... فظهرت الأديان السماوية الثلاثة. ما يؤكد ذلك قول الإمام المغيّب بهاء الأئمة الإمام موسى الصدر حيث ذكر في كلمة له:"كانت الأديان واحدة، لأن المبدأ الذي هو الله واحد. والهدف الذي هو الإنسان واحد. والمصير الذي هو هذا الكون واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الإنسان، نبذنا الله وابتعد عنا فأصبحنا فرقاً وطرائق قدداً، وألقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق. والآن لنعود الى الطريق، نعود الى الإنسان ليعود الله إلينا ".ً

 ثم بعد ذلك ظهرت العلوم والفنون وعصر النهضة يشهد على هذه الحضارة التي ساد أغلبها القارة الأوروبية، بعد أن أصبح الإنسان عاجزاً عن وعي المعرفة في وحدتها، عندما انحدر من مملكة الذات العليا الى واقع النفس الدنيا حيث تعم الازدواجية وتكثر التناقضات والسلبيات التي تقفل الطريق نحو عالم الحقيقة في الإنسان-الذات العليا.

لكن متى يعود الإنسان الى الطريق ؟! لا بد   أن يحدث ذلك عبر نبذ الحقد والتعصب حينما ينتهج الفرد الإيمان الواعي الإيمان المبصر الذي لا يميز بين إنسان وآخر هو إيمان المحبة الواعية التي تقود الى الطريق القدرية، الطريق التي تسبر باطن كل إنسان فتتخطى الحواجز المادية المصطنعة لتوصله الى حقيقته النورانية التي انبثق منها لاواعياً... هي طريق المعلمين الحكماء الذين تجسدوا من أجل خلاص البشرية جمعاء ليرشدوهم الى ملكوتهم السماوي الكامن في أعماقهم...

في كتاب وهكذا تتوالد الآلهة   Et Ainsi Naquirent Les Dieux   للأستاذ ثروت الأسيوطي ورد أن كلمة  Religion مشتقة من اللاتينية Religio وهذا المصطلح مشتق بدوره من Ligare الذي يعني الربط .

بمعنى أن الإنسان عليه أن يربط أي أن يعقل بين الأرضي والسماوي، وهذا لا يتم دون انتهاج طريق الباطن حيث تنكشف جميع الحقائق والأسرار...علماً أن تاريخ العبادة بدأ زمن قارة أطلنطس وما زال مستمراً حتى يومنا هذا، عبد خلالها الإنسان قوى الطبيعة كالشمس والقمر، حتى الحيوانات استحقت أن تدعى آلهة في بعض الحضارات كونها ترمز الى قوى كونية كالأفعى مثلاً التي تشير الى طاقة شاكرا العجز كونداليني التي تتصعّد في العمود الفقري لتتحد بشاكرا التاج مركز القوى الروحية في الإنسان...

البحّاثة الديني المعاصر ادمون روشديو يرى" أن جميع الأديان تحثّ الإنسان على الاندفاع نحو حقيقة تتجاوز الوضع البشري الراهن الى وضع آخر تعتبره أفضل. أي أنها جميعاً، وبدون استثناء، تحاول الخروج به من الواقع الذي يتردّى فيه الى واقع آخر تظنه أحسن".

وهذا بالفعل ما أدى الى تواجد الأديان السماوية كونها نعمة وُهبنا إياها إن عرف الإنسان استغلالها، أما إن حوّلت الى طقوس وشعائر دينية، فهي لن تجدي نفعاً بل ستزيد الأمور تعقيداً، فيتكاثر عندئذ التعصب. مما يبعد الإنسان عن أخيه الإنسان .

فكلمة دين تشبه كلمة دَين، بمعنى أن كل فرد عليه فريضة دفع ثمن جهله لأمور باطنية وروحية لم يعها سابقاً، فرضها عليه دينه نتيجة تلكئه عن اكتسابها. وهذا بالفعل ما يهدف إليه كل دين، تعريف الإنسان الى غوامض ومجاهل خاصة بالإنسان وبعملية الخلق. مما يجعل من الدين علماً إلهياً هادياً لكل من أراد سبر أعماقه، لأن الأديان جمعاء قوامها المحبة التي تسهل معرفة بواطن الأمور...من هنا نجد أن كل دين،  مكمل للآخر إلى أن تتكامل الأديان في ما بينها.

فإن رفض الإنسان عقيدة العودة الى التجسد، سوف يتغير دينه لاحقاً في دورة حياتية جديدة، ليصبح منتمياً لدين يعتقد به. أو كان مثلاً رافضاً لفكرة التثليث بأن الخالق  ذي ثلاثة أقانيم (الخالق ليس الله، فليس كمثله شيء)، بالتأكيد سيأتي مسيحياً في حياة تالية، وهذا ما يفرضه عليه قانون السبب والنتيجة، قانون العدل الإلهي- كارما وذلك لتكتمل دائرة وعي الإنسان...

قد يتساءل البعض، ما هو الدين الواجب انتهاجه، كي لا يتعرض الإنسان لاحقاً الى انتهاج دين آخر؟!

 هو دين الوعي، دين العقل الذي يربط الأرضي بالماورائي في منهجية عملية، تميط اللثام عن كل ما هو غير معقول. هذا الدين هو لكل زمان ومكان، هو دين المعرفة الواجب على كل إنسان انتهاجه، مهما كان انتماؤه المذهبي. لأنه طريق الخلاص من عبودية المادة الى إشراقة الحقيقة التي ستعيدنا الى موئلنا الحقيقي...

فليكن إيماننا،إيماناً قائماً على المعرفة التطبيقية تلك التي تقود الى عين اليقين، المرشد للإنسان في إتباع دين المحبة، محبة المعرفة الكاشفة للنواحي الخفية في الكون والإنسان والطبيعة.

 المراجع

  1- مقدمة الكلمة التي ألقاها الإمام السيد موسى الصدر في كنيسة الآباء الكبوشيين بتاريخ 18/2/1975

  2- كتاب بعنوان Et Ainsi Naquirent Les Dieux   للأستاذ Sarwat Anis Al-Assiouty

  3- الأديان من أولها الى خاتمها  الجزء الأول إعداد هنادي الحاج

                                                                                                                                 المهندس طوني عبد النور

                                                                        أستاذ في ا الجامعة اللبنانية