الثورة سيف ذو حدين إيجابي وسلبي، الأول يعيد
الانسيابية إلى قنوات وعينا الذبذبية، كي تتفاعل مع محور وعيها... فيما الثاني مسار
معاكس لها، يجعلنا نحيا في حالة تخبط داخلي وفوضى. نذكر في هذا الصدد لما ورد في
المجموعة الكاملة للأديب اللبناني جبران خليل جبران، (منشورات دار الجيل- بيروت)
تحت عنوان ’بدء الثورة‘ في صفحة 154: " أعمى يسير في ظلمة حالكة، فإذا ما بدا له عن
بعد ضوء مسرجة، توهمه شمسًا أو قمرًا ".
لذلك قبل القيام بأي عمل، يجب التخطيط له بروية، كي يتجلى لنا هدفه... بالتالي
إن عدم التجانس بين المخطط والهدف وبين قطبين أو عدة أقطاب، يعتبر من مقومات الثورة
والتفكك والتناقض وربما الانعزال، إثر غياب الطاقة الجاذبة بين الإرادة والمحبة... فيما التجانس والتناغم والانسجام من صفات
الوحدة والوعي، سواء كانت وحدة كيان أو شعب أو وطن ... جراء تواجد
طاقة ذبذبية مغناطيسية تحيك خيوط أثيرية، تنسج لحمة تواصل فيما بينهم.
فما من مجتمع إلا ويطمح لثورة فكرية، تفكك
قيود لاوعيه لتبرز تحرره النهضوي والحضاري.
ما من إنسان إلا وثارت مشاعره وغرائزه كحمم بركانية... فأطاحت بأقرب الأشخاص
المحيطين به، وخسر صداقتهم وإخلاصهم له.
وما من محب إلاَّ وتلوّع بشظى ثورات الغضب،
الناجمة عن سوء فهم من قبل من نحب.
هل الثورة ضريبة الجهل والفقر والظلم، يفرضها
نظام الكارما نتيجة خلل في التوازن؟! أم أنها مرتبطة بمؤامرات خارجية تحاك ضدنا؟!
القاموس العربي يشرح معنى الثورة بأنها: الهيج.
فيما الثائر: الغضبان. ونلاحظ أن كلمة ثورة ( ثور- ة) بحد ذاتها مشتقة من كلمة ثور،
ذكر البقرة الذي يثور.
مهما تعددت تفاسير القواميس، تبقى الثورة بحد
ذاتها فعل تحدي، يعززها الإصرار وإرادة الطموح. لكن الارتقاء إلى مستوى من الثورة
على النفس، بهدف الإطاحة بسلبياتها... لا بد أن يؤسس لدولة حضارية عصرية. حيث
المثابرة وتعززها الإرادة، والحماسة وتدفعها محبة السعي، سوف تحقق هدف الثورة على
الموبقات والشعارات المتوارثة.
إن الثورة في مفهومها الباطني... تُولد جراء
احتقان داخلي في قنوات النفس الداخلية... بعدما شيدت حواجز وسدود وحجب اللاوعي...
أدت إلى انقطاع التواصل بين مكونات وعينا الذبذبية الخاصة بالنفس الدنيا، نتيجة
انعدام تواصلها مع ذاتها العليا. فتثور النفس غاضبة رغماً عنها، مطالبة بتصحيح
الأخطاء المرتكبة، وبالحرية والتحرر وصولاً إلى إسقاط النظام الذي تنتمي إليه.
بينما المطلوب أن يكون الفكر دائم الثورة على انغلاقه الذهني، كذلك المشاعر عليها
أن تكون دائمة الثورة على مساحات اللاحب والرفض والعناد. وذلك بهدف تفعيل المحبة
الواعية التي تحقق اللحمة بين مكونات مجتمعنا. فينجم عنها هدف مشترك، يحقق ما تطمح
إليه كل ثورة فكرية هادفة إلى تحقيق نظام علماني إنساني...
نفهم من ذلك، أن جميع الأنظمة السياسية
السائدة، هي انعكاس للنظام الداخلي الذي بُرمج به باطن وعينا كطريقة حياة منتهجة،
وإن لاوعياً منا. كالنظام الطائفي الحالي. لذلك المطالبة بتغيير نظام سياسي معين
تبدأ من الداخل، من الباطن ثم ينعكس خارجًا في المجتمع والدولة معًا. فيؤدي ذلك إلى
إحداث ثروة وعي، يستطيع كل مواطن الاستفادة منها في تطوير مسلكه ونظام حياته...
تبعد عنه آفة الفقر والعوز. لا ثورة جياع، تطيح بالسلام الذي كان سائداً في البلاد،
بل ثورة تقضي على النظم البالية التي تبقي الإنسان أسير فقره وجهله ولاوعيه...
فإن كان هنالك ظلماً واستعمارًا وفساداً
واحتكارًا، بالتالي مواجهة هذا الواقع يتطلب احتكاكاً وتواصلاً عبر حوار بنّاء،
مهما تعددت وسائل المواجهات... لأن المشاركة الحقة، لا بد أن تنسج لحمة داخلية بين
أجزاء المجتمع وأفراد الوطن المتعدد الآراء والاتجاهات، لتصب خلاصة وعيها في
المصلحة العليا والخير العام. ولعل أعظم ثورة عرفها التاريخ، تمثلت في جهاد غاندي
وثورته على الانكليز، بعدما أثبت للعالم أن الروحانيات وسياسة اللاعنف والمعنويات
السامية، بمقدورها أن تحطم الاستعمار والاحتلال الغاشم، سواء كان من الداخل أو من
الخارج.
لكن في حال الثورة اتخذت طابعاً همجياً، أدت
إلى دمار المجتمع والدولة. لأن كل عمل سلبي حتى وإن حقق غايته، سوف يرتد سلباً على
كافة أفراده. وأكبر مثال على ذلك، الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789
وامتدت حتى 1799، وذهب ضحيتها آنذاك حوالي 30000 قتيل كما ذكرت موسوعة
ويكيبيديا.
السيدة مريم نور في كتابها بعنوان الثورة،
(إصدار شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) ذكرت في صفحة 11 و 12: " الجهاد الخارجي هو
الثورة الإرهابية التي نعيشها منذ آدم وحواء وما زلنا في هذا الذل... وهذا
الزلزال...ولكن الثورة التي سنعيشها معاً هي ثورة الثروة الداخلية والخارجية...".
كذلك الأديب ميخائيل نعيمة في المجموعة
الكاملة، المجلد التاسع ( دار العلم للملايين) في صفحة 539، ورد فيه: " الثورة وما
جاءت من تفكير جديد للمعيشة، قلبت الأوضاع رأساً على عقب وقسَّمت العالم الى
معسكرين يحاولان أن يتفاهما وأن يتعايشا. ولكنهما حتى الآن لم يبلغا شيئاً من
التفاهم في كيفية تعايشهما سلميا...ً".
أما المعلم ... ،فقد ذكر أن الفارق بين
المصطلحين الانكليزيين evolution وتعني التطور، والمصطلح الثاني revolution وتعني الثورة، يشير الى
الاختلاف بين التطور واللاتطور. فإن أنت كنت تتطور بوعيك، فلماذا إذاً اللجوء
الى المسلك السلبي اللاحضاري الثوري؟!...
الإنسان هو نفسه من وضع القيود والأغلال وأقام
الجدران والحواجز والسجون حول نفسه... فإن أراد التحرر والحرية ورفع الظلم، عليه أن
يثور على نفسه أولاً، قبل أن يثور على الآخرين. وليعلم طلاب الوعي... أنه مع دخول
كل عصر جديد، أو حضارة جديدة، سوف تنشأ أنظمة جديدة متطورة ... يتخللها عملية مخاض
عسير.
يتبين لنا من ذلك، أن الثورة منطلقها وعي
الباطن، تشبه الى حد بعيد موجة المد تسونامي، تجتاح كل من فقد اتصاله بمحوره وأصبح
بالياً رتيباً، جراء عدم التجدد في الانفتاح على علوم الباطن الإنساني... فتبتلعه
لتؤسس لنظام جديد... يتماشى مع متطلبات العصر وهدف الخلق.
المهندس طوني عبد النور
أستاذ في الجامعة اللبنانية